بسبب التضخم وتراجع الأجور.. إضراب يشل الحركة ويكشف عمق الغضب الاجتماعي في بلجيكا

بسبب التضخم وتراجع الأجور.. إضراب يشل الحركة ويكشف عمق الغضب الاجتماعي في بلجيكا
احتجاجات في بلجيكا بشأن الأجور وارتفاع تكلفة المعيشة

استيقظ البلجيكيون صباح الثلاثاء 14 أكتوبر على مشهد غير مألوف بين مطارات مغلقة، قطارات متوقفة، شوارع شبه خالية، وحافلات لا تصل إلى وجهاتها، إنه يوم الإضراب الوطني الذي دعت إليه النقابات العمالية الكبرى احتجاجًا على السياسات الحكومية التقشفية وارتفاع تكاليف المعيشة.

تقول صحيفة "Mirror" البريطانية إن هذا اليوم أدخل البلاد في حالة من الشلل التام، بعدما قررت النقابات أن تجعل صوتها مسموعًا أمام حكومة رئيس الوزراء ألكسندر دي كرو التي تواجه منذ شهور ضغوطًا متزايدة بسبب التضخم وتراجع الأجور الحقيقية وتجميد الرواتب في بعض القطاعات.

مطارات مغلقة ومسافرون عالقون

في مطار بروكسل الدولي، أكبر مطارات البلاد وأكثرها ازدحامًا، أُلغيت جميع الرحلات المغادرة ونحو نصف الرحلات القادمة، في مشهد نادر لم تشهده بلجيكا منذ جائحة كورونا.

وقال المتحدث باسم المطار، جيفري فرانسنس، إن 115 من أصل 238 رحلة وصول قد ألغيت، إضافة إلى 234 رحلة مغادرة، مشيرًا إلى أن الإضراب طال موظفي الأمن في شركة "G4S" المسؤولة عن فحص الحقائب وتأمين المطار، ما جعل التشغيل شبه مستحيل.

وفي مطار شارلروا الذي يُعد مركزًا رئيسيًا لشركات الطيران الاقتصادي مثل رايان إير، كان المشهد أكثر حدة، إذ أعلن عن إلغاء تام لجميع الرحلات ذهابًا وإيابًا، وقال المطار في بيان إن الركاب الذين كانت رحلاتهم مقررة في هذا اليوم سيُتواصل معهم لإعادة الحجز أو استرداد الأموال.

ووفقًا لصحيفة "The Brussels Times"، فإن الإضراب أثّر في نحو 48 ألف مسافر، بينهم 33 ألفًا كانت رحلاتهم مقررة للمغادرة و15 ألفًا للوصول، ما اضطر كثيرين للمبيت في الفنادق أو العودة إلى منازلهم.

 المواصلات العامة.. قلب الحياة اليومية يتوقف

لم يكن قطاع الطيران وحده المتأثر، فقد توقفت معظم خدمات النقل العام في بلجيكا، من المترو إلى الترام والحافلات.

في العاصمة بروكسل، أعلنت هيئة النقل المحلية عن تعليق شبه كامل لحركة القطارات والمترو، في حين شهدت المدن الكبرى مثل أنتويرب وغنت اختناقًا مروريًا ناتجًا عن اعتماد آلاف المواطنين على سياراتهم الخاصة في غياب وسائل النقل الجماعي.

قالت ماريان فان دير بورغت موظفة بلدية من أنتويرب، إنها استغرقت ساعتين ونصفًا للوصول إلى العمل بدلاً من 35 دقيقة، وأضافت بنبرة غاضبة: “أنا أؤيد مطالب النقابات، لكنني أعيش نتائج السياسات الخاطئة كل يوم، سواء أضربوا أم لا”.

جذور الغضب الشعبي

الإضراب ليس وليد اللحظة، فمنذ مطلع العام، تشهد بلجيكا تصاعدًا في التوترات الاجتماعية على خلفية ارتفاع الأسعار وتجميد الأجور وفقًا لقانون تثبيت الأجور الصادر عام 1996 الذي يمنع نمو الرواتب بما يفوق معدلات الدول المجاورة في الاتحاد الأوروبي.

ترى النقابات أن هذا القانون يخنق القوة الشرائية للعمال، خصوصًا بعد موجة التضخم التي تجاوزت 10% عام 2023، وهي العليا منذ نصف قرن.

يقول كيرت فان هيسنهوفن، المتحدث باسم نقابة "ACLVB"، إن “الإضراب هو رسالة قوية للحكومة لوقف سياسات التقشف التي تخنق الطبقة العاملة”.

ويضيف: "العمال لا يضربون من أجل الترف، بل من أجل البقاء. فكل يورو إضافي من فواتير الطاقة والضرائب المباشرة يُقتطع من لقمة العيش".

الحكومة بين التهدئة والضغوط

في المقابل، تحاول الحكومة البلجيكية التقليل من شأن الإضراب، ووصفت الموقف بأنه تعبير مشروع عن الرأي، لكنها حذّرت من انعكاساته السلبية على الاقتصاد الوطني.

وقال وزير المالية فينسنت فان بيتيغهيم في تصريح صحفي إن بلجيكا تمر بمرحلة دقيقة تتطلب ضبطًا للإنفاق الحكومي، مشيرًا إلى أن إجراءات التقشف مؤقتة وتهدف إلى الحفاظ على الاستقرار المالي وسط ضغوط التضخم وأعباء الدين العام.

لكن هذه التبريرات لا تقنع النقابات التي ترى أن الحكومة تدفع العمال ثمن أخطاء لا علاقة لهم بها.

يقول مارك ليفنسون، الأمين العام لنقابة "FGTB": "لا يمكن للحكومة أن تفرض ضرائب على الطبقات الوسطى وتمنح الشركات الكبرى إعفاءات ضريبية بحجة دعم الاستثمار. نحن نطالب بعدالة اجتماعية حقيقية لا شعارات سياسية".

في ساحة "دي بروكر" وسط بروكسل، تجمّع آلاف المتظاهرين رافعين لافتات كتب عليها: "لسنا أرقامًا في ميزانيتكم"، و"نريد أجورًا تواكب الأسعار".

تردّد الهتافات وتعلو الأبواق في أجواء يغلب عليها الغضب أكثر من الأمل.

تداعيات اقتصادية متوقعة

يتوقع خبراء الاقتصاد أن يكلّف الإضراب يومًا واحدًا نحو 250 مليون يورو من الناتج المحلي الإجمالي، نتيجة توقف القطاعات الحيوية كالطيران والنقل والخدمات اللوجستية.

ويحذر معهد بروكسل للدراسات الاقتصادية من أن استمرار الاحتجاجات قد يضعف ثقة المستثمرين في السوق البلجيكية، خصوصًا مع اقتراب موسم السياحة الشتوية الذي يشكّل مصدر دخل مهمًا للدولة.

ومع ذلك فإن بعض الاقتصاديين يرون أن الإضراب أشبه بجرس إنذار للحكومة وليس تهديدًا، إذ يعكس حجم الاحتقان الاجتماعي الذي إن لم يُعالَج بالحوار، قد يؤدي إلى موجات إضراب متكررة كما حدث في فرنسا وإسبانيا خلال الأعوام الماضية.

الاتحاد الأوروبي يراقب بقلق

أثارت الأزمة قلقًا في بروكسل، حيث توجد مؤسسات الاتحاد الأوروبي. فشلل المدينة يؤثر مباشرة في حركة المسؤولين الأوروبيين والبعثات الدبلوماسية.

وأعربت مفوضة الشؤون الاجتماعية في الاتحاد، نيكولا شميدت، عن تفهمها لمطالب النقابات”، لكنها دعت إلى “توازن بين حماية العمال وضمان الاستقرار المالي.

وأضافت في مؤتمر صحفي: “بلجيكا ليست وحدها في هذه الأزمة، فجميع الدول الأوروبية تواجه ضغوطًا اقتصادية بعد الحرب في أوكرانيا وارتفاع أسعار الطاقة. لكن الحوار الاجتماعي يبقى الطريق الوحيد للخروج من المأزق”.

أزمة أعمق من إضراب

يرى مراقبون أن ما يحدث في بلجيكا ليس مجرد احتجاج على الأجور، بل تعبير عن أزمة ثقة متصاعدة بين الطبقة العاملة والحكومة، تتغذى من شعور متزايد بالظلم الاجتماعي وغياب العدالة في توزيع الأعباء.

فبينما تعلن الحكومة عن إجراءات دعم محدودة، يشعر المواطنون أن الدولة صارت تُدار بلغة الأرقام لا البشر، كما يقول الباحث الاجتماعي فرانسوا فان ليندن الذي يرى أن الإضراب اليوم ليس نهاية المطاف، بل بداية مرحلة جديدة من المواجهة السياسية والاجتماعية.

ما بعد الشلل

مع حلول المساء، بدأت شوارع بروكسل تستعيد شيئًا من حركتها. توقفت المظاهرات، لكن صدى الهتافات ظل يتردد في الأجواء.

يدرك الجميع أن هذا اليوم لن يُنسى سريعًا؛ لأنه كشف حجم التصدّع في العلاقة بين الحكومة والمجتمع، وبين سياسات السوق وحقوق الإنسان في العيش الكريم.

وفي انتظار ما ستسفر عنه الأيام القادمة، تبقى بلجيكا أمام مفترق طرق حقيقي: إما حوار اجتماعي يعيد الثقة، أو تصعيد جديد قد يكرّس الانقسام ويعمّق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في قلب أوروبا.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية